سورة يوسف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)}
اعلم أنه لما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه الملك فقال: ائتوني به، وهذا يدل على فضيلة العلم، فإنه سبحانه جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية، فعاد الشرابي إلى يوسف عليه السلام قال أجب الملك، فأبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن ينكشف أمره وتزول التهمة بالكلية عنه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوا لي ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: {ارجع إلى رَبّكَ} ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم إلى الباب؛ ولما ابتغيت العذر إنه كان حليماً ذا أناة».
واعلم أن الذي فعله يوسف من الصبر والتوقف إلى أن تفحص الملك عن حاله هو اللائق بالحزم والعقل، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه لو خرج في الحال فربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثرها، فلما التمس من الملك أن يتفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوسل بها إلى الطعن فيه.
الثاني: أن الإنسان الذي بقي في السجن اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه الظاهر أنه يبادر بالخروج، فحيث لم يخرج عرف منه كونه في نهاية العقل والصبر والثبات، وذلك يصير سبباً لأن يعتقد فيه بالبراءة عن جميع أنواع التهم، ولأن يحكم بأن كل ما قيل فيه كان كذباً وبهتاناً.
الثالث: أن التماسه من الملك أن يتفحص عن حاله من تلك النسوة يدل أيضاً على شدة طهارته إذ لو كان ملوثاً بوجه ما، لكان خائفاً أن يذكر ما سبق.
الرابع: أنه حين قال للشرابي: {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن بضع سنين وهاهنا طلبه الملك فلم يلتفت إليه ولم يقم لطلبه وزناً، واشتغل بإظهار براءته عن التهمة، ولعله كان غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله، وكان هذا العمل جارياً مجرى التلافي لما صدر من التوسل إليه في قوله: {اذكرنى عِندَ رَبّكَ} ليظهر أيضاً هذا المعنى لذلك الشرابي، فإنه هو الذي كان واسطة في الحالتين معاً.
أما قوله: {وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرسول} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير والكسائي {فسله} بغير همز والباقون {رَبّكَ فَاسْأَلْهُ} بالهمز، وقرأ عاصم برواية أبي بكر عنه {النسوة} بضم النون والباقون بكسر النون، وهما لغتان.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية فيها أنواع من اللطائف: أولها: أن معنى الآية: فسل الملك يأن يسأل ما شأن تلك النسوة وما حالهن ليعلم براتي عن تلك التهمة، إلا أنه اقتصر على أن يسأل الملك عن تلك الواقعة لئلا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل.
وثانيها: أنه لم يذكر سيدته مع أنها هي التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة.
وثالثها: أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عمل قبيح وفعل شنيع عند الملك، فاقتصر يوسف عليه السلام على مجرد قوله: {مَا بَالُ النسوة الاتى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وما شكا منهن على سبيل التعيين والتفصيل. ثم قال يوسف بعد ذلك: {إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} وفي المراد من قوله: {إِنَّ رَبّى} وجهان:
الأول: أنه هو الله تعالى، لأنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور.
والثاني: أن المراد الملك وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً وله وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهن ومكرهن.
واعلم أن كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً: أحدها: أن كل واحدة منهن ربما طمعت فيه، فلما لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه وتنسبه إلى القبيح.
وثانيها: لعل كل واحدة منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقة سيدته على مرادها، ويوسف علم أن مثل هذه الخيانة في حق السيد المنعم لا تجوز، فأشار بقوله: {إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} إلى مبالغتهن في الترغيب في تلك الخيانة.
وثالثها: أنه استخرج منهن وجوهاً من المكر والحيل في تقبيح صورة يوسف عليه السلام عند الملك فكان المراد من هذا اللفظ ذاك، ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك، أمر الملك بإحضارهن وقال لهن: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} وفيه وجهان:
الأول: أن قوله: {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ} وإن كانت صيغة الجمع، فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] والثاني: أن المراد منه خطاب الجماعة.
ثم هاهنا وجهان:
الأول: أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها.
والثاني: أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه، وعند هذا السؤال {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}.
واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن بوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهراً عن جميع العيوب، وهاهنا دقيقة، وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال: {مَا بَالُ النسوة الاتى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة ألبتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عليها، فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل، ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة، فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك، فإني مقر بصدقها في دعواها، فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة: {حَصْحَصَ الحق} معناه: وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم: حصحص البعير في بروكه، إذا تمكن واستقر في الأرض.
قال الزجاج: اشتقاقه في اللغة من الحصة، أي بانت حصة الحق من حصة الباطل.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} كلام من؟ وفيه أقوال:
القول الأول: وهو قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام.
قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى: {إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] وهذا كلام بلقيس. ثم إنه تعالى قال: {وكذلك يَفْعَلُونَ} وأيضاً قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9] كلام الداعي.
ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} بقي على هذا القول سؤالات:
السؤال الأول: قوله: {ذلك} إشارة إلى الغائب، والمراد هاهنا: الإشارة إلى تلك الحادثة الحاضرة.
والجواب: أجبنا عنه في قوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] وقيل: ذلك إشارة إلى ما فعله من رد الرسول كأنه يقول ذلك الذي فعلت من ردي الرسول إنما كان، ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب.
السؤال الثاني: متى قال يوسف عليه السلام هذا القول؟
الجواب: روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال ذلك ليعلم وإنما ذكره على لفظ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب والأولى أنه عليه السلام إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه لأن ذكر هذا الكلام في حضرة الملك سوء أدب.
السؤال الثالث: هذه الخيانة وقعت في حق العزيز فكيف يقول: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب}.
والجواب: قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة، وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه، وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى يُحِبُّ الخائنين} ولعل المراد منه أني لو كنت خائناً لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة، وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه.
والقول الثاني: أن قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} كلام امرأة العزيز والمعنى: أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته، أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف الحق. ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول، وقالت: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} يعني أني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئاً عن الذنب لا جرم طهره الله تعالى عنه.
قال صاحب هذا القول: والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ} ففي تلك الحالة يقول يوسف: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية، ثم إن يوسف يقول ابتداء {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة.
المسألة الرابعة: هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة: الأول: أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهماً بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة، لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعياً منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك، وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلاً، والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه.
والثاني: أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن: {حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] وفي المرة الثانية حيث قلن: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} والثالث: أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] وفي المرة الثانية في هذه الآية.
واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه: أولها: قول المرأة: {أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ}.
وثانيها: قولها: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} [يوسف: 26].
وثالثها: قول يوسف عليه السلام: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال جبريل عليه السلام، ولا حين هممت، وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن.
ورابعها: قوله: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} يعني أن صاحب الخيانة لابد وأن يفتضح، فلو كنت خائناً لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني الله تعالى من هذه الورطة، فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين، وهاهنا وجه آخر وهو أقوى من الكل، وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة، وتلك المحنة صارت منتهية، فإقدامه على قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة، وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء، فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء، وقدوة الأصفياء؟ فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقوله الجهال والحشوية.


{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن تفسير هذه الآية يختلف بحسب اختلاف ما قبلها لأنا إن قلنا إن قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] كلام يوسف كان هذا أيضاً من كلام يوسف، وإن قلنا إن ذلك من تمام كلام المرأة كان هذا أيضاً كذلك ونحن نفسر هذه الآية على كلا التقديرين، أما إذا قلنا إن هذا كلام يوسف عليه السلام فالحشوية تمسكوا به وقالوا: إنه عليه السلام لما قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت بفك سراويلك فعند ذلك قال يوسف: {وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء} أي بالزنا {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} أي عصم ربي {إِنَّ رَبّى غَفُورٌ} للهم الذي هممت به {رَّحِيمٌ} أي لو فعلته لتاب علي.
واعلم أن هذا الكلام ضعيف فإنا بينا أن الآية المتقدمة برهان قاطع على براءته عن الذنب بقي أن يقال: فما جوابكم عن هذه الآية فنقول فيه وجهان:
الوجه الأول: أنه عليه السلام لما قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} كان ذلك جارياً مجرى مدح النفس وتزكيتها، وقال تعالى: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] فاستدرك ذلك على نفسه بقوله: {وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى} والمعنى: وما أزكي نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية.
والوجه الثاني: في الجواب أن الآية لا تدل ألبتة على شيء مما ذكروه وذلك لأن يوسف عليه السلام لما قال: {أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} بين أن ترك الخيانة ما كان لعدم الرغبة ولعدم ميل النفس والطبيعة، لأن النفس أمارة بالسوء والطبيعة تواقة إلى الذات فبين بهذا الكلام أن الترك ما كان لعدم الرغبة، بل لقيام الخوف من الله تعالى.
أما إذا قلنا: إن هذا الكلام من بقية كلام المرأة ففيه وجهان:
الأول: وما أبرئ نفسي عن مراودته ومقصودها تصديق يوسف عليه السلام في قوله: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} الثاني: أنها لما قالت: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] قالت وما أبرئ نفسي عن الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قد أحلت الذنب عليه وقلت: {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] وأودعته السجن كأنها أرادت الاعتذار مما كان.
فإن قيل جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف أولى أم جعله كلاماً للمرأة؟
قلنا: جعله كلاماً ليوسف مشكل، لأن قوله: {قَالَتِ امرأت العزيز الئن حَصْحَصَ الحق} [يوسف: 51] كلام موصول بعضه ببعض إلى آخره، فالقول بأن بعضه كلام المرأة والبعض كلام يوسف مع تخلل الفواصل الكثيرة بين القولين وبين المجلسين بعيد، وأيضاً جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً، لأن قوله: {وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى إِنَّ النفس لامَّارَةٌ بالسوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النفس، وذلك لا يليق بالمرأة التي استفرغت جهدها في المعصية.
المسألة الثانية: قالوا: {مَا} في قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} بمعنى من والتقدير: إلا من رحم ربي، وما ومن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ} [النور: 45] وقوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} استثناء متصل أو منقطع، فيه وجهان:
الأول: أنه متصل، وفي تقريره وجهان:
الأول: أن يكون قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} أي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة.
الثاني: إلا ما رحم ربي أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت العصمة.
والقول الثاني: أنه استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48] {إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا} [يس: 44].
المسألة الثالثة: اختلف الحكماء في أن النفس الإمارة بالسوء ما هي؟ والمحققون قالوا إن النفس الإنسانية شيء واحد، ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفساً مطمئنة، وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء، وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها، فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه، فذلك لا يحصل إلا نادراً في حق الواحد، فالواحد وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادراً لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء، ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية، وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية، والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات.
المسألة الرابعة: تمسك أصحابنا في أن الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله بقوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته؛ ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف. فنقول: لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر، وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضاً بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب.


{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال: هو العزيز، ومنهم من قال: بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر، وهذا هو الأظهر لوجهين:
الأول: أن قول يوسف: {اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض} يدل عليه.
الثاني: أن قوله: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له، وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز، فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر.
المسألة الثانية: ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال: قل اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن، وتقرير الكلام: أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه:
أحدها: أنه عظم اعتقاده في علمه، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه.
وثانيها: أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته، وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولاً ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم.
وثالثها: أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه، وذلك لأنه اقتصر على قوله: {مَا بَالُ النسوة الاتى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50] وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء وهذا من الأدب العجيب.
ورابعها: براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم.
وخامسها: أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوافي السجن.
وسادسها: أنه بقي في السجن بضع سنين، وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان، فكيف مجموعها، فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئاً جمع أسبابه وقواها.
إذا عرفت هذا فنقول: لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال: {ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفاً من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، ولما دخل عليه قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به.
روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام، أما ترى أن آكل معك، وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام، ثم قال: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} وفيه قولان:
أحدهما: أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدئ بالكلام وإنما الذي يبتدئ به هو الملك، والثاني: أن المراد: فلما كلم يوسف الملك قيل: لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملك حدثاً شاباً قال للشرابي: هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ماعلموها قال نعم، فأقبل على يوسف وقال: إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاهاً، فأجاب بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قال له: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} يقال: فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة، وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد. وقوله: {أَمِينٌ} أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه.
واعلم أن قوله: {مِكِينٌ أَمِينٌ} كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب، وذلك لأنه لابد في كونه مكيناً من القدرة والعلم.
أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة.
وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي بالفعل، وتخصيص ما لا ينبغي بالترك، فثبت أن كونه مكيناً لا يحصل إلا بالقدرة والعلم.
أما كونه أميناً فهو عبارة عن كونه حكيماً لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة، فثبت أن كونه مكيناً أميناً يدل على كونه قادراً، وعلى كونه عالماً بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة، وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا: وإنما يكون غنياً عن القبيح إذا كان قادراً، وإذا كان منزهاً عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكيناً أميناً نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام {اجعلنى على خَزَائِنِ الارض إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال المفسرون: لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف: {اجعلنى على خَزَائِنِ الارض} أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض، والمراد منه المعهود السابق.
روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أنه قال: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة» وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل الله عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة وأيضاً فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر، وأيضاً لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الأمارة في الحالة، وأيضاً لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر، مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضاً كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله: {إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} مع أنه تعالى يقول: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] وأيضاً فما الفائدة في قوله: {إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} وأيضاً لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول: إني حفيظ عليم إن شاء الله بدليل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَئ إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الكهف: 23، 24] فهذه أسئلة سبعة لابد من جوابها فنقول: الأصل في جواب هذه المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه، فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان، إنما قلنا: إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه:
الأول: أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق، والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان، والثاني: وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم، فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق، والثالث: أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول.
وإذا ثبت هذا فنقول: إنه عليه السلام كان مكلفاً برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فكان هذا الطريق واجباً عليه ولما كان واجباً سقطت الأسئلة بالكلية، وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي: كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة، وأقول: لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء، وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه:
الأول: لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفاً بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب، وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر، ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل، فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] المراد منه تزكية النفس حال مايعلم كونها غير متزكية، والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} أما إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه والله أعلم.
قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم؟
قلنا: إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال، عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها، ويقال: حفيظ بجميع مصالح الناس، عليم بجهات حاجاتهم أو يقال: حفيظ لوجوه أياديك وكرمك، عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13